سورة الحج - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الحج)


        


{إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (18)}
القراءة: قرى {حَقّ} بالضم وقرئ (حقاً) أي حق عليه العذاب حقاً وقرئ {مُّكْرِمٍ} بفتح الراء بمعنى الإكرام، واعلم أنه تعالى لما قال: {وَأَنَّ الله يَهْدِي مَن يُرِيدُ} [الحج: 16] أتبعه في هذه الآية ببيان من يهديه ومن لا يهديه، واعلم أن المسلم لا يخالفه في المسائل الأصولية إلا طبقات ثلاثة: أحدها: الطبقة المشاركة له في نبوة نبيه كالخلاف بين الجبرية والقدرية في خلق الأفعال البشرية والخلاف بين مثبتي الصفات والرؤية ونفاتها.
وثانيها: الذين يخالفونه في النبوة ولكن يشاركونه في الاعتراف بالفاعل المختار كالخلاف بين المسلمين واليهود والنصارى في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وعيسى وموسى عليهما السلام.
وثالثها: الذين يخالفونه في الإله وهؤلاء هم السوفسطائية المتوقفون في الحقائق، والدهرية الذين لا يعترفون بوجود مؤثر في العالم، والفلاسفة الذين يثبتون مؤثراً موجباً لا مختاراً. فإذا كانت الاختلافات الواقعة في أصول الأديان محصورة في هذه الأقسام الثلاثة، ثم لا يشك أن أعظم جهات الخلاف هو من جهة القسم الأخير منها.
وهذا القسم الأخير بأقسامه الثلاثة لا يوجدون في العالم المتظاهرين بعقائدهم ومذاهبهم بكل يكونون مستترين، أما القسم الثاني وهو الاختلاف الحاصل بسبب الأنبياء عليهم السلام، فتقسيمه أن يقال القائلون بالفاعل المختار، إما أن يكونوا معترفين بوجود الأنبياء، أو لا يكونوا معترفين بذلك، فإما أن يكونوا أتباعاً لمن كان نبياً في الحقيقة أو لمن كان متنبئاً، أما أتباع الأنبياء عليهم السلام فهم المسلمون واليهود والنصارى، وفرقة أخرى بين اليهود والنصارى وهم الصابئون، وأما أتباع المتنبئ فهم المجوس، وأما المنكرون للأنبياء على الإطلاق فهم عبدة الأصنام والأوثان، وهم المسمون بالمشركين، ويدخل فيهم البراهمة على اختلاف طبقاتهم. فثبت أن الأديان الحاصلة بسبب الاختلافات في الأنبياء عليهم السلام هي هذه الستة التي ذكرها الله تعالى في هذه الآية، قال قتادة ومقاتل الأديان ستة واحدة لله تعالى وهو الإسلام وخمسة للشيطان، وتمام الكلام في هذه الآية قد تقدم في سورة البقرة.
أما قوله: {إِنَّ الله يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة} ففيه مسألتان:
المسألة الأولى: قال الزجاج هذا خبر لقول الله تعالى: {إِنَّ الذين ءَامَنُواْ} كما تقول إن أخاك، إن الدين عليه لكثير.
قال جرير:
إن الخليفة إن الله سربله *** سربال ملك به ترجى الخواتيم
المسألة الثانية: الفصل مطلق فيحتمل الفصل بينهم في الأحوال والأماكن جميعاً فلا يجازيهم جزاء واحداً بغير تفاوت ولا يجمعهم في موطن واحد وقيل يفصل بينهم يقضي بينهم.
أما قوله تعالى: {إِنَّ الله على كُلّ شَيء شَهِيدٌ} فالمراد أنه يفصل بينهم وهو عالم بما يستحقه كل منهم فلا يجري في ذلك الفصل ظلم ولا حيف.
أما قوله سبحانه وتعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يَسْجُدُ لَهُ} ففيه أسئلة:
السؤال الأول: ما الرؤية هاهنا الجواب: أنها العلم أي ألم تعلم أن الله يسجد له من في السموات ومن في الأرض وإنما عرف ذلك بخبر الله لا أنه رآه.
السؤال الثاني: ما السجود هاهنا قلنا فيه وجوه:
أحدها: قال الزجاج أجود الوجوه في سجود هذه الأمور أنها تسجد مطيعة لله تعالى وهو كقوله: {ثُمَّ استوى إِلَى السماء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائتيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت: 11]، {أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل: 40]، {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ الله} [البقرة: 74]، {وَإِن مّن شَيْء إِلاَّ يُسَبّحُ بِحَمْدَهِ} [الإسراء: 44]، {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودُ الجبال يُسَبّحْنَ} [الأنبياء: 79] والمعنى أن هذه الأجسام لما كانت قابلة لجميع الأعراض التي يحدثها الله تعالى فيها من غير امتناع ألبتة أشبهت الطاعة والانقياد وهو السجود فإن قيل هذا التأويل يبطله قوله: {وَكَثِيرٌ مّنَ الناس} فإن السجود بالمعنى الذي ذكرته عام في كل الناس فإسناده إلى كثير منهم يكون تخصيصاً من غير فائدة والجواب من وجوه:
أحدها: أن السجود بالمعنى الذي ذكرناه وإن كان عاماً في حق الكل إلا أن بعضهم تمرد وتكبر وترك السجود في الظاهر، فهذا الشخص وإن كان ساجداً بذاته لكنه متمرد بظاهره، أما المؤمن فإنه ساجد بذاته وبظاهره فلأجل هذا الفرق حصل التخصيص بالذكر.
وثانيها: أن نقطع قوله: {وَكَثِيرٌ مّنَ الناس} عما قبله ثم فيه ثلاثة أوجه: الأول: أن نقول تقدير الآية: ولله يسجد من في السموات ومن في الأرض ويسجد له كثير من الناس فيكون السجود الأول بمعنى الانقياد والثاني بمعنى الطاعة والعبادة، وإنما فعلنا ذلك لأنه قامت الدلالة على أنه لا يجوز استعمال اللفظ المشترك في معنييه جميعاً.
الثاني: أن يكون قوله: {وَكَثِيرٌ مّنَ الناس} مبتدأ وخبره محذوف وهو مثاب لأن خبر مقابله يدل عليه وهو قوله: {حَقَّ عَلَيْهِ العذاب}، والثالث: أن يبالغ في تكثير المحقوقين بالعذاب فيعطف كثير على كثير ثم يخبر عنهم بحق عليهم العذاب كأنه قيل وكثير من الناس وكثير حق عليهم العذاب.
وثالثها: أن من يجوز استعمال اللفظ المشترك في مفهوميه جميعاً يقول: المراد بالسجود في حق الأحياء العقلاء العبادة وفي حق الجمادات الانقياد، ومن ينكر ذلك يقول إن الله تعالى تكلم بهذه اللفظة مرتين، فعنى بها في حق العقلاء، الطاعة وفي حق الجمادات الانقياد.
السؤال الثالث: قوله: {أنَّ اللَّهِ يَسْجُدُ لهُ مَن فِي السموات الأرض} لفظه لفظ العموم فيدخل فيه الناس فلم قال مرة أخرى {وَكَثِيرٌ مّنَ الناس} الجواب: لو اقتصر على ما تقدم لأوهم أن كل الناس يسجدون كما أن كل الملائكة يسجدون فبين أن كثيراً منهم يسجدون طوعاً دون كثير منهم فإنه يمتنع عن ذلك وهم الذين حق عليهم العذاب.
القول الثاني: في تفسير السجود أن كل ما سوى الله تعالى فهو ممكن لذاته والممكن لذاته لا يترجح وجوده على عدمه إلا عند الانتهاء إلى الواجب لذاته كما قال: {وَأَنَّ إلى رَبّكَ المنتهى} [النجم: 42] وكما أن الإمكان لازم للممكن حال حدوثه وبقائه فافتقاره إلى الواجب حاصل حال حدوثه وحال بقائه، وهذا الافتقار الذاتي اللازم للماهية أدل على الخضوع والتواضع من وضع الجبهة على الأرض فإن ذلك علامة وضعية للافتقار الذاتي، وقد يتطرق إليها الصدق والكذب، أما نفس الافتقار الذاتي فإنه ممتنع التغير والتبدل، فجميع الممكنات ساجدة بهذا المعنى لله تعالى أي خاضعة متذللة معترفة بالفاقة إليه والحاجة إلى تخليقه وتكوينه، وعلى هذا تأولوا قوله: {وَإِن مّن شَيْء إِلاَّ يُسَبّحُ بِحَمْدَهِ} [الإسراء: 44] وهذا قول القفال رحمه الله.
القول الثالث: أن سجود هذه الأشياء سجود ظلها كقوله تعالى: {يَتَفَيَّأُ ظلاله عَنِ اليمين والشمآئل سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ داخرون} [النحل: 48] وهو قول مجاهد.
وأما قوله: {كَثِيرٍ مِّنَ الناس وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ العذاب} فقال ابن عباس في رواية عطاء (وكثير من الناس) يوحده (وكثير حق عليه العذاب) ممن لا يوحده، وروى عنه أيضاً أنه قال (وكثير من الناس) في الجنة. وهذه الرواية تؤكد ما ذكرنا أن قوله: {وَكَثِيرٌ مّنَ الناس} مبتدأ وخبره محذوف، وقال آخرون: الوقف على قوله: {وَكَثِيرٌ مّنَ الناس} ثم استأنف فقال: {وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ العذاب} أي وجب بإبائه وامتناعه من السجود.
وأما قوله تعالى: {وَمَن يُهِنِ الله فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ} فالمعنى أن الذين حق عليهم العذاب ليس لهم أحد يقدر على إزالة ذلك الهوان عنهم فيكون مكرماً لهم، ثم بين بقوله: {إِنَّ الله يَفْعَلُ مَا يَشَاء} أنه الذي يصح منه الإكرام والهوان يوم القيامة بالثواب والعقاب، والله أعلم.


{هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (22) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (23) وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ (24)}
القراءة: روي عن الكسائي {خَصْمَانِ} بكسر الخاء، وقرئ {قُطّعَتْ} بالتخفيف كان الله يقدر لهم نيراناً على مقادير جثثهم تشتمل عليهم كما تقطع الثياب الملبوسة، قرأ الأعمش: {كُلَّمَا أَرَادُواْ أَن يَخْرُجُواْ مِنْهَا مِنْ غَمّ رُدُّواْ فِيهَا} الحسن {يُصْهَرُ} بتشديد الهاء للمبالغة، وقرئ {وَلُؤْلُؤاً} بالنصب على تقدير ويؤتون لؤلؤاً كقوله وحوراً عيناً ولؤلؤاً بقلب الهمزة الثانية واواً، واعلم أنه سبحانه لما بين أن الناس قسمان منهم من يسجد لله ومنهم من حق عليه العذاب ذكر هاهنا كيفية اختصامهم، وفيه مسائل:
المسألة الأولى: احتج من قال أقل الجمع اثنان بقوله: {هذان خَصْمَانِ اختصموا}، والجواب: الخصم صفة وصف بها الفوج أو الفريق فكأنه قيل: هذان فوجان أو فريقان يختصمان، فقوله: {هذان} للفظ واختصموا للمعنى كقوله: {وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حتى إِذَا خَرَجُواْ} [محمد: 16].
المسألة الثانية: ذكروا في تفسير الخصمين وجوهاً: أحدها: المراد طائفة المؤمنين وجماعتهم وطائفة الكفار وجماعتهم وأن كل الكفار يدخلون في ذلك، قال ابن عباس رضي الله عنهما يرجع إلى أهل الأديان الستة {فِى رَبّهِمْ} أي في ذاته وصفاته.
وثانيها: روي أن أهل الكتاب قالوا نحن أحق بالله وأقدم منكم كتاباً ونبينا قبل نبيكم، وقال المؤمنون نحن أحق بالله آمنا بمحمد وآمنا بنبيكم وبما أنزل الله من كتاب، وأنتم تعرفون كتابنا ونبينا ثم تركتموه وكفرتم به حسداً، فهذه خصومتهم في ربهم.
وثالثها: روى قيس ابن عبادة عن أبي ذر الغفاري رحمه الله أنه كان يحلف بالله أن هذه الآية نزلت في ستة نفر من قريش تبارزوا يوم بدر: حمزة وعلي وعبيدة بن الحارث وعتبة وشيبة ابنا ربيعة والوليد بن عتبة، وقال علي عليه السلام أنا أول من يجثو للخصومة بين يدي الله تعالى يوم القيامة.
ورابعها: قال عكرمة: هما الجنة والنار قالت النار خلقني الله لعقوبته. وقالت الجنة خلقني الله لرحمته فقص الله من خبرهما على محمد صلى الله عليه وسلم ذلك، والأقرب هو الأول لأن السبب وإن كان خاصاً فالواجب حمل الكلام على ظاهره قوله: {هذان} كالإشارة إلى من تقدم ذكره وهم أهل الأديان الستة، وأيضاً ذكر صنفين أهل طاعته وأهل معصيته ممن حق عليه العذاب، فوجب أن يكون رجوع ذلك إليهما، فمن خص به مشركي العرب أو اليهود من حيث قالوا في كتابهم ونبيهم ما حكيناه فقد أخطأ، وهذا هو الذي يدل عليه قوله: {إِنَّ الله يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ} [الحج: 17] أراد به الحكم لأن ذكر التخاصم يقتضي الواقع بعده يكون حكماً فبين الله تعالى حكمه في الكفار، وذكر من أحوالهم أموراً ثلاثة: أحدها: قوله: {قُطّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مّن نَّارِ} والمراد بالثياب إحاطة النار بهم كقوله: {لَهُم مّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ} [الأعراف: 41] عن أنس، وقال سعيد بن جبير من نحاس أذيب بالنار أخذاً من قوله تعالى: {سَرَابِيلُهُم مّن قَطِرَانٍ} [إبراهيم: 5] وأخرج الكلام بلفظ الماضي كقوله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصور} [الكهف: 99]، {وَجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ} [ق: 21] لأن ما كان من أمر الآخرة فهو كالواقع.
وثانيها: قوله: {يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُؤُوسِهمْ الحميم} يصهر به ما في بطونهم والجلود، الحميم الماء الحار، قال ابن عباس رضي الله عنهما لو سقطت منه قطرة على جبال الدنيا لأذابتها، (يصهر) أي يذاب أي إذا صب الحميم على رؤوسهم كان تأثيره في الباطن نحو تأثيره في الظاهر فيذيب أمعاءهم وأحشاءهم كما يذيب جلودهم وهو أبلغ من قوله: {وَسُقُواْ مَاء حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَاءهُمْ} [محمد: 15].
وثالثها: قوله: {وَلَهُمْ مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ} المقامع السياط وفي الحديث لو وضعت مقمعة منها في الأرض فاجتمع عليها الثقلان ما أقلوها وأما قوله: {كُلَّمَا أَرَادُواْ أَن يَخْرُجُواْ مِنْهَا مِنْ غَمّ أُعِيدُواْ فِيهَا} فاعلم أن الإعادة لا تكون إلا بعد الخروج والمعنى كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم فخرجوا أعيدوا فيها، ومعنى الخروج ما يروى عن الحسن أن النار تضربهم بلهبها فترفعهم حتى إذا كانوا في أعلاها ضربوا بالمقاطع فهووا فيها سبعين خريفاً وقيل لهم ذوقوا عذاب الحريق، والحريق الغليظ من النار العظيم الإهلاك، ثم إنه سبحانه ذكر حكمه في المؤمنين من أربعة أوجه: أحدها: المسكن، وهو قوله: {إِنَّ الله يُدْخِلُ الذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار}.
وثانيها: الحلية، وهو قوله: {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} فبين تعالى أنه موصلهم في الآخرة إلى ما حرمه عليهم في الدنيا من هذه الأمور وإن كان من أحله لهم أيضاً شاركهم فيه لأن المحلل للنساء في الدنيا يسير بالإضافة إلى ما سيحصل لهم في الآخرة.
وثالثها: الملبوس وهو قوله: {وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ}.
ورابعها: قوله: {وَهُدُواْ إِلَى الطيب مِنَ القول} وفيه وجوه:
أحدها: أن شهادة لا إله إلا الله هو الطيب من القول لقوله: {وَمَثَلاً كَلِمَةً طَيّبَةً} [إبراهيم: 24] وقوله: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكلم الطيب} [فاطر: 10] وهو صراط الحميد لقوله: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52].
وثانيها: قال السدي (وهدوا إلى الطيب من القول) هو القرآن.
وثالثها: قال ابن عباس رضي الله عنهما في رواية عطاء هو قولهم الحمد لله الذي صدقنا وعده.
ورابعها: أنهم إذا ساروا إلى الدار الآخرة هدوا إلى البشارات التي تأتيهم من قبل الله تعالى بدوام النعيم والسرور والسلام، وهو معنى قوله: {والملائكة يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مّن كُلّ بَابٍ * سلام عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عقبى الدار} [الرعد: 23، 24] وعندي فيه وجه. خامس: وهو أن العلاقة البدنية جارية مجرى الحجاب للأرواح البشرية في الاتصال بعالم القدس فإذا فارقت أبدانها انكشف الغطاء ولاحت الأنوار الإلهية، وظهور تلك الأنوار هو المراد من قوله: {وَهُدُواْ إِلَى الطيب مِنَ القول وَهُدُواْ إلى صراط الحميد} والتعبير عنها هو المراد من قوله: {وَهُدُواْ إِلَى الطيب مِنَ القول}.


{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (25)}
اعلم أنه تعالى بعد أن فصل بين الكفار والمؤمنين ذكر عظم حرمه البيت وعظم كفر هؤلاء فقال: {إِنَّ الذين كَفَرُواْ} بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم {وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله والمسجد الحرام} وذلك بالمنع من الهجرة والجهاد لأنهم كانوا يأبون ذلك. وفيه إشكال وهو أنه كيف عطف المستقبل وهو قوله: {وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله} الماضي وهو قوله: {كَفَرُواْ} والجواب: عنه من وجهين:
الأول: أنه يقال فلان يحسن إلى الفقراء ويعين الضعفاء لا يراد به حال ولا استقبال وإنما يراد استمرار وجود الإحسان منه في جميع أزمنته وأوقاته، فكأنه قيل إن الذين كفروا من شأنهم الصد عن سبيل الله، ونظيره قوله: {الذين ءَامَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ الله} [الرعد: 28].
وثانيهما: قال أبو علي الفارسي التقدير إن الذين كفروا فيما مضى وهم الآن يصدون ويدخل فيه أنهم يفعلون ذلك في الحال والمستقبل، أما قوله: {والمسجد الحرام} يعني ويصدوهم أيضاً عن المسجد الحرام، قال ابن عباس رضي الله عنهما نزلت الآية في أبي سفيان بن حرب وأصحابه حين صدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية عن المسجد الحرام عن أن يحجوا ويعتمروا وينحروا الهدي فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم قتالهم وكان محرماً بعمرة ثم صالحوه على أن يعود في العام القابل.
أما قوله: {الذي جعلناه لِلنَّاسِ سَوَاء العاكف فِيهِ والباد} ففيه مسائل:
المسألة الأولى: قال أبو علي الفارسي أي جعلناه للناس منسكاً ومتعبداً وقوله: {سَوَاء العاكف فِيهِ والباد} رفع على أنه خبر مبتدأ مقدم أي العاكف والباد فيه سواء، وتقدير الآية المسجد الحرام الذي جعلناه للناس منسكاً فالعاكف والبادي فيه سواء وقرأ عاصم ويعقوب (سواء) بالنصب بإيقاع الجعل عليه لأن الجعل يتعدى إلى مفعولين، والله أعلم.
المسألة الثانية: العاكف المقيم به الحاضر. والبادي الطارئ من البدو وهو النازع إليه من غربته، وقال بعضهم يدخل في العاكف القريب إذا جاور ولزمه للتعبد وإن لم يكن من أهله.
المسألة الثالثة: اختلفوا في أنهما في أي شيء يستويان قال ابن عباس رضي الله عنهما في بعض الروايات إنهما يستويان في سكنى مكة والنزول بها فليس أحدهما أحق بالمنزل الذي يكون فيه من الآخر إلا أن يكون واحد سبق إلى المنزل وهو قول قتادة وسعيد بن جبير ومن مذهب هؤلاء أن كراء دور مكة وبيعها حرام واحتجوا عليه بالآية. والخبر، أما الآية فهي هذه قالوا إن أرض مكة لا تملك فإنها لو ملكت لم يستو العاكف فيها والبادي، فلما استويا ثبت أن سبيله سبيل المساجد، وأما الخبر فقوله عليه السلام:
مكة مباح لمن سبق إليها وهذا مذهب ابن عمر وعمر بن عبد العزيز ومذهب أبي حنيفة وإسحاق الحنظلي رضي الله عنهم وعلى هذا المراد بالمسجد الحرام الحرم كله لأن إطلاق لفظ المسجد الحرام والمراد منه البلد جائز بدليل قوله تعالى: {سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مّنَ المسجد الحرام} [الإسراء: 1] وهاهنا قد دل الدليل وهو قوله: {العاكف} لأن المراد منه المقيم إقامة، وإقامته لا تكون في المسجد بل في المنازل فيجب أن يقال ذكر المسجد وأراد مكة.
القول الثاني: المراد جعل الله الناس في العبادة في المسجد سواء ليس للمقيم أن يمنع البادي وبالعكس قال عليه السلام: «يا بني عبد مناف من ولي منكم من أمور الناس شيئاً فلا يمنعن أحداً طاف بهذا البيت أو صلى أية ساعة من ليل أو نهار».
وهذا قول الحسن ومجاهد وقول من أجاز بيع دور مكة. وقد جرت مناظرة بين الشافعي وإسحاق الحنظلي بمكة وكان إسحاق لا يرخص في كراء بيوت مكة، واحتج الشافعي رحمه الله بقوله تعالى: {الذين أُخْرِجُواْ مِن ديارهم بِغَيْرِ حَقّ} [الحج: 40] فأضيفت الدار إلى مالكها وإلى غير مالكها، وقال عليه السلام يوم فتح مكة: {من أغلق بابه فهو آمن} وقال صلى الله عليه وسلم: «هل ترك لنا عقيل من ربع» وقد اشترى عمر بن الخطاب رضي الله عنهما دار السجن، أترى أنه اشتراها من مالكها أو من غير مالكها؟ قال إسحاق: فلما علمت أن الحجة قد لزمتني تركت قولي.
أما الذي قالوه من حمل لفظ المسجد على مكة بقرينة قوله العاكف، فضعيف لأن العاكف قد يراد به الملازم للمسجد المعتكف فيه على الدوام، أو في الأكثر فلا يلزم ما ذكروه، ويحتمل أن يراد بالعاكف المجاور للمسجد المتمكن في كل وقت من التعبد فيه فلا وجه لصرف الكلام عن ظاهره مع هذه الاحتمالات.
أما قوله: {وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ} ففيه مسائل:
المسألة الأولى: قرئ {يُرِدْ} بفتح الياء من الورود، ومعناه من أتى فيه بإلحاد وعن الحسن ومن يرد إلحاده بظلم، والمعنى ومن يرد إيقاع إلحاد فيه، فالإضافة صحيحة على الاتساع في الظرف كمكر الليل والنهار، ومعناه ومن يرد أن يلحد فيه ظالماً.
المسألة الثانية: الإلحاد العدول عن القصد وأصله إلحاد الحافر، وذكر المفسرون في تفسير الإلحاد وجوهاً: أحدها: أنه الشرك، يعني من لجأ إلى حرم الله ليشرك به عذبه الله تعالى، وهو إحدى الروايات عن ابن عباس وقول عطاء بن أبي رباح وسعيد بن جبير وقتادة ومقاتل.
وثانيها: قال ابن عباس رضي الله عنهما: نزلت في عبدالله بن سعد حيث استسلمه النبي صلى الله عليه وسلم فارتد مشركاً، وفي قيس بن ضبابة.
وقال مقاتل: نزلت في عبدالله بن خطل حين قتل الأنصاري وهرب إلى مكة كافراً، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله يوم الفتح كافراً.
وثالثها: قتل ما نهى الله تعالى عنه من الصيد.
ورابعها: دخول مكة بغير إحرام وارتكاب ما لا يحل للمحرم.
وخامسها: أنه الاحتكار عن مجاهد وسعيد بن جبير.
وسادسها: المنع من عمارته.
وسابعها: عن عطاء قول الرجل في المبايعة لا والله وبلى والله.
وعن عبد الله بن عمر أنه كان له فسطاطان أحدهما في الحل والآخر في الحرم، فإذا أراد أن يعاتب أهله عاتبهم في الحل، فقيل له فقال: كنا نحدث أن من الإلحاد فيه أن يقول الرجل لا والله وبلى والله.
وثامنها: وهو قول المحققين: أن الإلحاد بظلم عام في كل المعاصي، لأن كل ذلك صغر أم كبر يكون هناك أعظم منه في سائر البقاع حتى قال ابن مسعود رضي الله عنه: لو أن رجلاً بعدن هم بأن يعمل سيئة عند البيت أذاقه الله عذاباً أليماً.
وقال مجاهد: تضاعف السيئات فيه كما تضاعف الحسنات، فإن قيل كيف يقال ذلك مع أن قوله: {نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} غير لائق بكل المعاصي قلنا لا نسلم، فإن كل عذاب يكون أليماً، إلا أنه تختلف مراتبه على حسب اختلاف المعصية.
المسألة الثالثة: الباء في قوله: {بِإِلْحَادٍ} فيه قولاه: أحدهما: وهو الأولى وهو اختيار صاحب الكشاف أن قوله: {بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ} حالان مترادفان ومفعول يرد متروك ليتناول كل متناول كأنه قال ومن يرد فيه مراداً ما عادلاً عن القصد ظالماً نذقه من عذاب أليم، يعني أن الواجب على من كان فيه أن يضبط نفسه ويسلك طريق السداد والعدل في جميع ما يهم به ويقصده.
الثاني: قال أبو عبيدة: مجازه ومن يرد فيه إلحاداً والباء من حروف الزوائد.
المسألة الرابعة: لما كان الإلحاد بمعنى الميل من أمر إلى أمر بين الله تعالى أن المراد بهذا الإلحاد ما يكون ميلاً إلى الظلم، فلهذا قرن الظلم بالإلحاد لأنه لا معصية كبرت أم صغرت إلا وهو ظلم، ولذلك قال تعالى: {إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] أما قوله تعالى: {نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} فهو بيان الوعيد وفيه مسائل:
المسألة الأولى: من قال الآية نزلت في ابن خطل قال: المراد بالعذاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قتله يوم الفتح، ولا وجه للتخصيص إذا أمكن التعميم، بل يجب أن يكون المراد العذاب في الآخرة لأنه من أعظم ما يتوعد به.
المسألة الثانية: أن هذه الآية تدل على أن المرء يستحق العذاب بإرادته للظلم كما يستحقه على عمل جوارحه.
المسألة الثالثة: ذكروا قولين في خبر إن المذكور في أول الآية: الأول: التقدير إن الذين كفروا ويصدون ومن يرد فيه بإلحاد نذقه من عذاب فهو عائد إلى كلتا الجملتين.
الثاني: أنه محذوف لدلالة جواب الشرط عليه تقديره: إن الذين كفروا ويصدون عن المسجد الحرام نذيقهم من عذاب أليم. وكل من ارتكب فيه ذنباً فهو كذلك.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8